الصمود خيار من لا يملك ثمن المغادرة

غلاء النزوح وصعوبة البقاء: معادلة الغزيين تحت النار

غلاء النزوح وصعوبة البقاء: معادلة الغزيين تحت النار
تقارير وحوارات


غزة/ أحمد حمدي:
مع اقتراب طي العام الثاني من عمر الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لم يكتف فيها الاحتلال بمزيد من القتل والقصف والدمار، بل امتدت وحشيته لتسرق من الغزيين شعور ما تبقى من الاستقرار في ظل مطالباته المتكررة منهم بالنزوح لمناطق الجنوب المكتظ أصلاً بالسكان.
على مفترق طرق، يقف أهالي مدينة غزة بين نزوح مرير لا خيارات فيه، فإما الانتقال “المؤقت” نحو الغرب، إلى أحياء ما تزال قائمة ولكنها مكتظة، ومهددة بالقصف في أي لحظة، وإما تفريغ المدينة مما تبقى من روحها والنزوح الطويل نحو الجنوب.
وبينما تكثفت الدعوات المسمومة من الاحتلال للأهالي للنزوح نحو جنوب القطاع، قرر كثيرون منهم عبور مسارات أخرى للانتقال غرب المدينة، إما لعدم توفر المواصلات في ظل شح الوقود وغلاء أسعار المتوفر منه، أو لارتفاع أسعار استئجار المنازل والأراضي في مناطق الجنوب، فضلاً عن الاكتظاظ السكاني هناك.
ملاذ تحت الخطر
تقول أم يوسف صبيح (52 عامًا)، إن خيار نزوحها من حي التفاح إلى غرب المدينة كان بدافع تجنب مشقة الرحيل الطويل جنوباً وسط انعدام المواصلات، حيث تقدرت تكلفة نزوحها في حال قررت ذلك، لما يقرب من ألف دولار، وهو مبلغ لم تمتلكه منذ بدء الحرب أصلاً.
لم يكتفِ الاحتلال بوجع النزوح الذي يرافق أم يوسف طيلة عامين من الحرب، بل جعلها كما تضيف لـ"الاستقلال، في توتر و هاجس دائمين، حين سماعها بأخبار نية الجيش احتلال مدينة غزة “حاسة إنو حنفقد أكثر من بيوتنا وممتلكاتنا، ونكون غرباء في مدينتنا نفسها، ويطلع علينا الصبح نصحى وتكون غزة مش إلنا”.
صبيح، التي باعت بعضًا من مصاغها الذهبي لتوفير خيمة بالكاد تقيها حرارة الصيف وتؤمن تكاليف انتقال عائلتها إلى غرب المدينة، بعد أن رفضت النزوح إلى الجنوب، تصف مشهد النزوح قائلة: “ما تخيلت أبيع شيء من ذكرياتي عشان أوفر خيمة أو أشتري بعض المعلبات لأسد جوعي وجوع أطفالي، ورغم هيك كلو يهون عن إجبارنا للنزوح من غزة".
إصرار على البقاء
أما محمد الخطيب (35 عامًا) فاضطر إلى النزوح من المناطق الشرقية في بلدة جباليا شمال قطاع غزة إلى غرب مدينة غزة هربا من القصف الإسرائيلي الذي زادت وتيرته منذ يومين.
الخطيب، نصب خيمته على شاطئ البحر رافضا النزوح إلى جنوب القطاع، رغم التهديدات الإسرائيلية المتواصلة باحتلال مدينة غزة وإجبار أكثر من مليون فلسطيني على ترك أماكن سكنهم.
يقول الخطيب لـ"الاستقلال":" لا أرغب في تكرار مُسلسل النزوح السابق، وتأسيس حياة جديدة في مكانٍ آخر لا أعلم كيف سيكون، بالإضافة إلى أن القصف يلاحق كل مناطق القطاع".
ويضيف: "النزوح طريق شاق ومتعب، وهو يفترض منك أن تنفق كل ما لديك من أموال للانتقال فقط، متسائلاً: "وين نروح؟ وكيف ممكن تتسع عربة توك توك لكل ما تريد من مقتنيات؟ وماذا نأخذ؟ وكيف تحمل؟ وهل سنعود؟ وهل الجنوب آمن فعلاً؟ هذه الأسئلة أجبرتني لرفض النزوح جنوبًا لأن الموت واحد في كل مكان".
ومنذ إطلاق الاحتلال تهديداته إعلاميًا نحو مخطط احتلال مدينة غزة، يعيش نصف مليون فلسطيني ممن يقطنون في محافظة شمال القطاع والأحياء الشرقية والجنوبية لمدينة غزة، على وقع رفض أوامر الإخلاء تلك، وقد اضطروا للنزوح غربا بفعل اشتداد عمليات القصف والتوغل شرقًا.
نزوح بلا ترف
ورغم أن غالبية هؤلاء النازحين يرفضون التوجه جنوبا بعد تجربة نزوح قاسية عاشوا تفاصيلها لأكثر من عام، بعدما قطع الاحتلال الطرق الواصلة بين شمال القطاع وجنوبه منذ بداية الحرب على غزة حتى مطلع فبراير/شباط الماضي، إلا أن البعض قرر النزوح جنوبًا خاصة ممن توفر لهم مكان إقامة لدى بعض الأقرباء أو الأصدقاء.
يقول محمد تمراز (42 عامًا)، إنه استطاع أن يؤمن مكانًا لخيمة صغيرة بجوار منزل شقيقته في منطقة المواصي غرب مدينة خان يونس، وهو ما دفعه للانتقال والنزوح.
ويضف لـ "الاستقلال": قرار النزوح جنوبًا ليس بالأمر السهل أو الميسر بحسب ما يدعي الاحتلال، وحتى توفير المياه التي زعم أنها متوفرة هي بالكاد تكفي النازحين من مناطق الجنوب".
ويروي تمراز ، معاناته اليومية التي زاد عبئها في تجهيز خيمته أو حتى بيع بعضًا من أثاثه لتوفير ثمن رحلة النزوح التي فاقت الألف دولار، فضلاً عن معاناته في التأقلم مع بيئة النزوح الجديدة.
بدوره، أكد المكتب الإعلامي الحكومي في بيان أصدره في نهاية أغسطس/ آب الماضي، أن الاحتلال يروّج لأكاذيب وخرائط مضللة لتهجير سكان غزة والشمال قسرياً وافتعال أزمة إنسانية جديدة، وأنه يزعم وجود "مساحات فارغة" في جنوب القطاع لاستيعاب النازحين.
وقال المكتب، إن هذه مزاعم باطلة تهدف إلى تضليل الرأي العام الدولي والتغطية على جريمة التهجير القسري.
الاكتظاظ في الجنوب
وأشار المكتب إلى أن أكثر من 1.25 مليون نازح يعيشون حالياً في خيام عشوائية وظروف مأساوية، لا تتوفر فيها مقومات أساسية للحياة.
وشدد المكتب على أن الاحتلال يهدف من وراء إخلاء مدينة غزة الدفع بالتهجير القسري لسكان القطاع، وهو ما اعتبره جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية وفق القانون الدولي واتفاقية جنيف الرابعة، داعيًا المجتمع الدولي والهيئات الأممية لاتخاذ إجراءات فورية لوقف التهجير القسري وجرائم الاحتلال المستمرة.
ومع مرور الوقت واتساع رقعة التهديدات الإسرائيلية باحتلال المدينة، يعيش الغزيون رحلة اقتلاع جديدة من بيوتهم التي لم تغادر قلوبهم بعد، في ظل غياب أي ضمانة لوقف الإبادة بحقهم، حيث يبقى النزوح رحلة مفتوحة على المجهول، يفضل فيه الغزيين الانتقال غربًا عن النزوح جنوبًا، لأنه بالنسبة لهم، الأقصر مسافة، والأخف وطأة على أقدامهم المثقلة بالفقد.

التعليقات : 0

إضافة تعليق